بـ 50 مليون بذرة.. كيف تخطط السعودية لإعادة "إحياء" صحراء الربع الخالي؟

في قلب واحدة من أكثر المناطق جفافًا وقسوة على سطح الأرض، أطلقت المملكة مشروعًا بيئيًا طموحًا يجمع بين التكنولوجيا والوعي البيئي، ويهدف إلى إعادة الحياة إلى رمال الربع الخالي الصامتة، حيث يعمل المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي.
ومكافحة التصحر بالتعاون مع شركة أرامكو السعودية على مبادرة لنثر 50 مليون بذرة في أعماق الصحراء المشروع، الذي ينفَّذ على مراحل دقيقة، يستثمر في نتائج عمليات المسح والحفر الجيوفيزيائي التي تقوم بها أرامكو في ثلاثة مواقع داخل الربع الخالي.
إقرأ ايضاً:الجليدان يقترب من الرحيل .. والفتح يرفع السقف لـ 50 مليونعرض أوروبي لضم نجم الأهلي في الصيف.. القرار النهائي في يوليو
إضافة إلى موقعين في حرض ويبرين بالمنطقة الشرقية، غير أن الجديد هذه المرة ليس فقط في الجغرافيا، بل في الفكرة ذاتها: تحويل العمل الصناعي إلى أداة لإحياء الطبيعة.
هذا التحالف بين الطاقة والبيئة يفتح صفحة جديدة في سجل المسؤولية البيئية، إذ يهدف إلى استعادة التنوع الأحيائي وزراعة بذور أنواع محلية مثل الأرطى والعرفج والضِمران والرمث، وهي نباتات لطالما لعبت دورًا بيئيًا محوريًا في المناطق الصحراوية.
ورغم الطبيعة القاسية للربع الخالي، فإن المبادرة تتسلح بفهم علمي دقيق للنظام البيئي هناك، حيث لا تُنثر البذور عشوائيًا، بل يتم تحديد مواقع ملائمة اعتمادًا على خصائص التربة وكمية الأمطار وتضاريس الأرض، ما يمنح هذه الخطوة فرصًا حقيقية للنجاح.
ويأتي هذا التعاون ضمن سلسلة من الشراكات الواسعة التي يعقدها المركز مع مؤسسات من مختلف القطاعات، سعيًا لتعزيز الاستدامة البيئية ومكافحة التصحر، وتفعيل دور القطاعات الصناعية الكبرى في تحقيق التوازن البيئي، وليس استنزافه.
ويُعد مشروع نثر البذور في الربع الخالي خطوة ضمن استراتيجية أوسع يعمل عليها المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي، والتي تشمل برامج لإعادة تأهيل الأراضي المتدهورة، وحماية المراعي، واستثمار المتنزهات الوطنية بطريقة تحافظ على مواردها الطبيعية.
في بلد تتصدر فيه البيئة جدول السياسات الوطنية من خلال رؤية المملكة 2030، يُنظر إلى الغطاء النباتي ليس فقط كقيمة جمالية، بل كحاجز بيولوجي حيوي يحمي من زحف الرمال، ويقلل من آثار التغير المناخي، ويعزز جودة الهواء والحياة.
وتمثل هذه الخطوة واحدة من أكبر عمليات نثر البذور على مستوى المنطقة، لا من حيث العدد فحسب، بل من حيث استخدام تقنيات المسح الصناعي لأغراض بيئية، ما يجعل المشروع نموذجًا فريدًا للتكامل بين التنمية البيئية والأنشطة الاقتصادية الكبرى.
ويتولى المركز كذلك مهام الرقابة والرصد على الغطاء النباتي، ويواجه تحديات مستمرة مثل التعدي على أراضي المراعي والاحتطاب الجائر، الأمر الذي يجعل من كل بذرة تُزرع استثمارًا مضاعفًا في المستقبل، في بيئة تواجه ضغطًا متزايدًا من عوامل طبيعية وبشرية.
وتحمل هذه المبادرة بعدًا رمزيًا أيضًا، فهي تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والصحراء، وتؤكد أن المناطق التي كانت تُعدّ في السابق ميادين للعزلة يمكن أن تصبح نماذج حية للاستدامة عندما تُوظّف الموارد بشكل ذكي ومتوازن.
إن استخدام نباتات محلية في نثر البذور يراعي التوازن البيئي، ويمنع إدخال أنواع دخيلة قد تخل بالنظام الطبيعي القائم، وهو أمر بالغ الأهمية في مشروعات الإحياء البيئي، إذ أن كل نوع من النباتات له دور محدد في سلسلة الحياة الصحراوية.
وفي ضوء التغيرات المناخية المتسارعة، يصبح لمثل هذه المشاريع دور أكبر من مجرد زيادة الرقعة الخضراء، فهي تشكّل جبهة دفاع حقيقية ضد الاحتباس الحراري، وتقلل من الكربون في الجو، وتساعد في استقرار النظام البيئي المحلي.
وقد أثبتت التجارب السابقة التي نفذها المركز في مناطق أخرى أن الاستثمار في الغطاء النباتي لا يتطلب فقط نثر البذور، بل يستلزم متابعة دقيقة وتقييم دوري ودعم مستمر لضمان استمرار النمو وتحقيق الأثر البيئي المطلوب.
وهكذا، فإن مشروع نثر 50 مليون بذرة في صحراء الربع الخالي ليس مجرد نشاط بيئي، بل هو إعلان صريح بأن المستقبل البيئي للمملكة يُبنى بذرة تلو أخرى، وبشراكات واعية بين المؤسسات التي ترى في الصحراء فرصة، لا عائقًا.