في مواجهة المستقبل: هل ينتصر الذكاء الاصطناعي على نفسه؟

في قلب التطورات المتسارعة بعالم التكنولوجيا، يظهر تهديد جديد يتسلل بصمت لكنه لا يفتقر إلى الخطورة: «الذكاء الاصطناعي المظلم»، ومع الانفتاح الكبير على أدوات الذكاء الاصطناعي وتوسع استخدامها في ميادين متعددة، لم يعد الغريب أن يخرج هذا الذكاء عن السيطرة، منتقلاً من مختبرات التطوير إلى جبهات الجريمة الإلكترونية، في هذا السياق، كان التحذير واضحاً وصريحاً من شركة «كاسبرسكي» خلال مؤتمر "Cyber Security Weekend 2025" الذي استضافته جزيرة بوكيت التايلاندية: المعركة القادمة لن تكون بين إنسان وآلة، بل بين ذكاءين اصطناعيين.
في مشهد بدا كأنه مقتبس من أفلام الخيال العلمي، قدّم خبراء كاسبرسكي صورة قاتمة عن المستقبل القريب، حيث لا تحتاج الجريمة السيبرانية إلى عبقري تقني أو مبرمج بارع، بل إلى مستخدم عادي يمتلك أدوات ذكاء اصطناعي مطورة خصيصاً لتنفيذ هجمات متقدمة، فهذه النماذج "المظلمة"، والتي تُصمَّم بمعزل عن أي اعتبارات أخلاقية، باتت قادرة على توليد شيفرات خبيثة، وصياغة رسائل تصيّد ذات صياغة احترافية، بل وحتى إنشاء مواقع مزيّفة تُحاكي أشهر المنصات العالمية، وكل ذلك دون ترك أثر واضح خلفها.
إقرأ ايضاً:"الإعلام السعودي يبهر العالم" تغطية شاملة للحج بأكثر من 12 لغة وخدمات بث متطورةتعليم الطائف يقدم 100 كشاف ومتطوع لخدمة ضيوف الرحمن في موسم الحج 1446هـ
أليكسي أنتونوف، قائد فريق أبحاث تقنيات الذكاء الاصطناعي في كاسبرسكي، أطلق تحذيراً من أن الخطر الحقيقي لا يكمن في استخدام المحترفين لهذه الأدوات، بل حين تصبح متاحة للهواة، "ما يثير القلق حقاً"، يقول أنتونوف، "هو اليوم الذي يستطيع فيه أي فرد غير مختص استخدام ذكاء اصطناعي خبيث بسهولة، لتنفيذ هجمات رقمية فعالة دون الحاجة لأي خبرة تقنية حقيقية".
وما يعزز هذا القلق هو ما أوضحه سيرغي لوجكين، رئيس فريق البحث والتحليل العالمي بالشركة، حين أشار إلى أن الذكاء الاصطناعي ما زال، حتى اللحظة، بحاجة إلى تدخل بشري لصقل الشيفرات البرمجية الخبيثة، لكنه يؤكد أن هذا الوضع مؤقت، "فنحن على بُعد خطوات قليلة من ظهور نماذج قادرة على كتابة شيفرات هجومية كاملة، جاهزة للتنفيذ، دون أي تدخل بشري يُذكر".
هذا الانتقال من الحاجة إلى "لمسة بشرية" إلى استقلالية شبه تامة، يمثل لحظة فاصلة في تاريخ الأمن السيبراني، فبينما كانت دورة إنتاج البرمجيات الخبيثة تأخذ أياماً أو حتى أسابيع، أصبح من الممكن اختزالها إلى دقائق بفضل الذكاء الاصطناعي، الطلب بسيط مثل "أضف تشفيراً يخفي الشيفرة عن أنظمة الحماية"، والباقي تقوم به الخوارزميات التي لا تتعب ولا تمل.
ويؤكد خبراء كاسبرسكي أن هذا التهديد لم يعد نظرياً، بل هو واقع ملموس تجسّده جماعات مثل FunkSec التي ظهرت عام 2024، هذه الجماعة اعتمدت بالكامل على أكواد أنتجها الذكاء الاصطناعي، ونفّذت هجمات فدية مزدوجة مع تعليقات برمجية متقنة، دافعة بمجال الجرائم الإلكترونية إلى مرحلة "منخفضة الكلفة وعالية الحجم"، مستغلة السرعة والدقة التي توفرها الخوارزميات,
في عمق هذا التهديد، يظهر مصطلح "الذكاء الاصطناعي المظلم" كأكثر من مجرد توصيف أدبي، فهو يشير إلى نماذج لغوية ضخمة يتم تطويرها بمعزل عن الأنظمة الأخلاقية والتقنية المتعارف عليها، وغالباً على أيدي مجرمين، لخدمة أغراضهم، على عكس الذكاء الاصطناعي التجاري، الذي يرفض بطبيعته تنفيذ الأوامر الخبيثة، فإن هذه النماذج لا تضع خطوطاً حمراء لأي طلب، بل تستجيب له مهما كان غرضه.
ويبدو أن التصدي لهذا النوع الجديد من التهديدات يتطلب تغييراً في قواعد اللعبة، لم تعد برامج مكافحة الفيروسات التقليدية أو الجدران النارية كافية، بل يتطلب الأمر ذكاءً اصطناعياً مضاداً، قادراً على تتبع نماذج السلوك السيبراني والتعرف على الأنماط الهجومية قبل وقوعها، إنها معركة ذكاء اصطناعي ضد ذكاء اصطناعي، حيث لا مجال للخطأ.
لكن السؤال الذي يظل مطروحاً: هل يمكن أن نكبح جماح الذكاء الاصطناعي المظلم قبل أن يفلت الزمام؟ الخبراء في كاسبرسكي يقرّون بصعوبة المهمة، إلا أنهم لا ينفون إمكانيّة تطوير دفاعات سيبرانية قائمة على الذكاء الاصطناعي نفسه، لمجابهة هذا التهديد المتنامي، غير أن السباق قائم، ومن يصل أولاً قد يحسم المعركة.
وسط كل هذا، تبقى الحقيقة الأكثر إرباكاً أن الذكاء الاصطناعي، الذي وُلد كأداة للارتقاء بالبشرية، أصبح سلاحاً في يد من يريد تدميرها رقمياً، ولعل ما نعيشه اليوم ليس سوى بداية لعصر جديد، تتقاطع فيه العبقرية مع الفوضى، والذكاء مع الخطر.