من الكوفة إلى حائل درب زبيدة يحكي ألف عام من رحلات الحج

في عمق الصحراء وعلى امتدادٍ يتجاوز الزمن، لا تزال ملامح درب زبيدة قائمة كشاهد حي على إحدى أبهى صور الحضارة الإسلامية العريقة، هذا الطريق التاريخي، الذي يمتد من مدينة الكوفة في العراق وصولًا إلى مكة المكرمة في قلب الجزيرة العربية، مرّ عبر منطقة حائل، وحمل معه قرونًا طويلة من العطاء والكرم والسعي الدؤوب لخدمة قوافل الحجاج والمسافرين، ليُصبح بذلك رمزاً للتنظيم والإدارة والاهتمام بضيوف الرحمن عبر العصور.
يُعتبر درب زبيدة من أهم طرق الحج القديمة التي خُلدت في صفحات التاريخ، وقد سُمّي هذا الدرب المبارك نسبةً إلى السيدة زبيدة بنت جعفر المنصور، زوجة الخليفة العباسي الشهير هارون الرشيد، التي تبنّت شخصياً مهمة تمهيده وتجهيزه وتطويره لخدمة قوافل الحجيج والمسافرين، فأنشأت عليه السدود لحفظ المياه، والآبار التي توفر مياه الشرب النقية، والمنازل التي كانت بمثابة محطات استراحة آمنة ومجهزة، وقد خلّدت بذلك اسمها بأحرف من نور على امتداد هذا الطريق المبارك، الذي أصبح أيقونة للعطاء والاهتمام بالحجاج.
إقرأ ايضاً:رحيل مفاجئ: أسطورة يوفنتوس "بافيل نيدفيد" يودع الشباب السعوديدكتور المسرطنات السعودية فهد الخضيري يسرد فوائد الحلبة والكركم
بحسب هيئة تطوير منطقة حائل، فإن درب زبيدة مرّ بأكثر من 30 محطة تاريخية داخل حدود المنطقة وحدها، بدءًا من محطة العشار في الشمال الشرقي، وانتهاءً بمحطة البعايث في الجنوب الغربي، مما يُبرز مدى اتساع وتكامل هذا المشروع التاريخي، ومن أبرز تلك المحطات التي لا تزال آثارها شاهدة حتى اليوم العرايش، شامة كبد، فيد، الخزيمية، الشفاء، الحويص، سميراء، الجفالية، الحروقة، الغريبين، كتيبة، حريد، أبو روادف، الشغوة، المهينية، والمذيريات، هذه المحطات كانت تُشكل نقاطاً حيوية على طول الطريق.
توزّعت هذه المحطات بين مراكز استراحة مجهزة تُقدم الراحة للمسافرين بعد عناء السفر، ونقاط سقيا تُوفر المياه اللازمة للإنسان والحيوان، إضافة إلى كونها نقاطاً أمنية وتنظيمية كانت تخدم آلاف الحجاج سنويًا، ضمن شبكة متكاملة من الخدمات اللوجستية التي سبقت وقتها بمراحل، وتُظهر مدى التقدم الذي وصل إليه المجتمع الإسلامي في تلك الحقبة في مجال إدارة الطرق والخدمات.
يُعدّ درب زبيدة إرثًا حضاريًا متكاملاً لا يُقدر بثمن، فقد جسّد القيم الإسلامية السامية في خدمة ضيوف الرحمن، والقدرة التنظيمية الفائقة للمجتمع الإسلامي في العصور الوسطى، مما يجعله شاهداً على التقدم الحضاري الذي شهدته الدولة الإسلامية، وتُظهر الآثار الباقية من الدرب أن العمل لم يكن عشوائياً أو مرتجلاً، بل جرى وفق تخطيط هندسي دقيق ومحكم، شمل بناء برك المياه العملاقة التي تُجمع فيها مياه الأمطار، والآبار المحفورة بعناية لتوفير المياه الجوفية، والمنازل التي وفّرت الأمن والراحة اللازمة للحجاج في رحلتهم الشاقة.
وفي إطار سعيها للحفاظ على هذا الإرث العظيم، تعمل هيئة تطوير حائل حالياً على إحياء وتأهيل هذا الطريق التاريخي، ضمن مشاريع رؤية السعودية 2030 الطموحة، التي تهدف إلى تعزيز الهوية الثقافية للمملكة، وتحويل المواقع التراثية إلى وجهات سياحية وتاريخية عالمية تُجذب الزوار من كل مكان، مما يُسهم في تنويع مصادر الدخل، ويُعرف العالم بالتراث الغني للمملكة.
ويُعد إدراج درب زبيدة ضمن قائمة المسارات الثقافية ذات الأولوية مؤشراً واضحاً على الأهمية الكبيرة التي توليها المملكة لهذا النوع من التراث الحي، الذي يمتد بجذوره في أعماق التاريخ الإسلامي، ويرتبط بأقدس رحلة يقوم بها المسلمون في حياتهم، وهي فريضة الحج، فإحياء هذا الدرب ليس مجرد ترميم لآثار قديمة، بل هو إعادة إحياء لقصص الأجداد، وتجسيد لقيم العطاء والضيافة، وربط الأجيال الجديدة بتاريخها العريق.