دموع على منبر عرفات: خطيب يوم عرفة يدعو لفلسطين ويُبكي الحجاج في مشهد مؤثر

في مشهد إيماني نادر تجلى فيه صدق الدعاء وعمق الشعور، وقف الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد على منبر مسجد نمرة في صعيد عرفات الطاهر، مخاطبًا جموع الحجاج الذين تجاوز عددهم المليونين، في خطبة يوم عرفة التي تُعد من أبرز اللحظات الروحية التي يتطلع إليها المسلمون كل عام، داخل الحرم وخارجه.
كانت خطبة هذا العام مختلفة، ليست فقط في مضمونها الديني والإنساني، ولكن في أثرها الذي هز القلوب وأبكى العيون، حين خنق التأثر صوت الخطيب وهو يرفع يديه بالدعاء لإخوانه في فلسطين، داعيًا الله أن يفرج كربهم، ويجبر كسرهم، ويؤمّن خائفهم، في لحظة التحم فيها صوت الخطيب مع نبض الأمة.
إقرأ ايضاً:"على ظهور الخيل" ثلاثة مسلمون إسبان يحيون طريق حج تاريخي لم يُسلك منذ 500 عامهيرفي رينارد يُشعل الأجواء بتصريحات قوية بعد فوز المنتخب السعودي على البحرين في تصفيات كأس العالم
وقد بدأ الشيخ بن حميد خطبته بتذكير الحجيج والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بأهمية التقوى والعودة إلى الله، مبينًا أن التقوى هي الزاد الحقيقي الذي ينبغي أن يحمله الإنسان في رحلة حياته، مستشهدًا بقول الله تعالى: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
وأوضح في مقدمة خطبته أن هذا اليوم العظيم – يوم عرفة – هو يوم مشهود، يتنزل فيه الغفران، وتُعتق فيه الرقاب من النيران، وتُرفع فيه الحاجات إلى خالق الأرض والسموات.
وكان صوته هادئًا رصينًا في بدايته، إلا أن حرارة الموقف بدأت تتصاعد حين أخذ الخطيب يستعرض حال الأمة الإسلامية، ومعاناة الشعوب، خصوصًا ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي مشهد نادر ومؤثر، توقّف الخطيب برهة، وغصّ صوته بالبكاء حين بدأ دعاءه لفلسطين، قائلاً: "اللهم كن لإخواننا في فلسطين، اللهم تولَّ شأنهم، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عاريهم، وآوِ طريدهم، واجبر كسيرهم، وأمِّن خائفهم، واكفهم شر أعدائهم، اللهم انصرهم على من ظلمهم، وعلى من عاداك وعاداهم، يا قوي يا عزيز".
وبدت الدموع في عينيه واضحة وهو يكرر الدعاء، ما أثار مشاعر الحجاج الذين ردّدوا خلفه "آمين" بصوت واحد، في مشهد يعجز عن وصفه اللسان، وتفيض له العيون دموعًا.
وكان الحضور الفلسطيني في خطبة عرفة هذا العام لافتًا ومؤلمًا في آنٍ واحد، فقد نقل الشيخ بن حميد معاناة شعب بأكمله إلى صعيد عرفات، مُذكّرًا الأمة بمسؤوليتها تجاه أشقائها، ومؤكدًا أن الدعاء لفلسطين ليس فقط تعبيرًا عن التضامن، بل هو فرض إيماني نابع من روح العقيدة الإسلامية التي تربط جسد الأمة ببعضه.
وأضاف أن من واجب كل مسلم أن يحمل في قلبه همّ المظلومين، وأن يرفع يده بالدعاء لكل مكروب، ولا سيما في أوقات الإجابة ومواطن الرحمة كعرفات.
ولم يقف دعاء الشيخ عند فلسطين فحسب، بل امتد ليشمل جميع بلاد المسلمين، داعيًا الله أن يُصلح أحوال الأمة، ويؤلف بين قلوب المسلمين، وينشر السكينة بينهم، قائلاً: "اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم ألّف بين قلوبهم، وزرع المحبة بينهم، واجعلهم يدًا واحدة على من عاداهم، اللهم اجعل هذا الحج سببًا في توحيد صفهم وجمع كلمتهم على الخير والحق".
وواصل خطبته بالإشارة إلى أن روح الحج لا تكتمل إلا إذا تجسدت في سلوك المسلم وأخلاقه بعد العودة، مشددًا على أن المقصد من الحج لا يقتصر على أداء الشعائر، بل يتعدى ذلك إلى التزكية والتطهر والانضباط والسمو السلوكي.
وكان من أبرز ما جاء في الخطبة أيضًا تنبيه الشيخ بن حميد إلى أهمية الالتزام بالتعليمات والأنظمة التي تنظم شعيرة الحج، مشيرًا إلى أن ذلك من مقاصد الشريعة، لأنه يسهم في حفظ النفس، وتحقيق الانسيابية في الحركة، وضمان أمن وسلامة الحجاج.
وقال في هذا الصدد: "إن التزام الحاج بالتعليمات هو من تمام العبادة، وهو سلوك حضاري راقٍ، ودليل على طهارة القلب وصدق النية، فلا طاعة لله تُبنى على فوضى، ولا عبادة تُؤدى على حساب النظام"، وأضاف أن من واجب المسلم أن يُظهر الصورة المشرقة للإسلام من خلال التزامه وانضباطه.
وقد أثارت الخطبة تفاعلًا واسعًا على مستوى العالم الإسلامي، حيث تم نقلها عبر أكثر من 35 لغة مختلفة ضمن مشروع خادم الحرمين الشريفين لترجمة خطبة عرفة، ما جعل مضمونها يصل إلى ملايين المسلمين في شتى بقاع الأرض، خاصة الجاليات التي لا تتقن اللغة العربية، وتمكّنوا من معايشة اللحظة بنفس الأثر والتأثر.
وجاءت ردود الفعل على الخطبة عبر منصات التواصل الاجتماعي محمّلة بالتأثر والإعجاب، خاصة بلحظة الدعاء المؤثرة، التي اعتبرها البعض "من أبرز لحظات يوم عرفة لهذا العام"، لما حملته من صدق ومشاعر وانكسار بين يدي الله.
ويُعد الشيخ صالح بن حميد من أبرز علماء المملكة، وهو عضو هيئة كبار العلماء، ومستشار بالديوان الملكي، وكان قد شغل سابقًا منصب رئيس مجلس الشورى، ثم رئيس المجلس الأعلى للقضاء، ويتمتع بثقة كبيرة بين علماء الأمة، ويُعرف بخطبه الرزينة والعميقة التي تتناول الواقع بلغة القرآن والسنة، وتجمع بين الوعظ والإصلاح، وبين العلم والتأثير.
وبينما غابت العناوين السياسية عن الخطبة، حضرت المعاني الكبرى التي تشغل بال كل مسلم، في توقيت يتعرض فيه العالم الإسلامي لأزمات متلاحقة وتحديات وجودية.
وقد جاءت كلمات الشيخ بن حميد تواسي القلوب، وتفتح أبواب الرجاء، وتؤكد أن في التضرع والعودة إلى الله مفتاحًا لكل فرج، وأن الأمة رغم ما تمرّ به، لا تزال قادرة على النهوض إذا صدقت النوايا وتوحدت الصفوف.
وهكذا، لم تكن خطبة عرفة لهذا العام مجرد مناسبة دينية تتكرر كل عام، بل كانت نداءً عاطفيًا صادقًا من قلب الحرم إلى قلب الأمة، حمل دعاء المظلومين، وتوسلات المستضعفين، ومشاعر الملايين، في لحظة قد تصنع فارقًا في وعي الأمة، وتجدد صلتها بخالقها، وتبعث في روحها الأمل في النصر والفرج.